كتب المفكر الكويتي محمد الرميحي كتاباً تحت عنوان «الخليج ليس نفطا». وفي نفس السياق الذي اختاره الرميحي يمكننا القول بأن دير الزور ليست نفطاً أيضاً، بل هي جغرافيا ورأس مال بشري وثروات متنوعة، أصابها إهمال متعمد أحال المحافظة إلى ما هي عليه اليوم، فلقد كان إنسان الشرق السوري هدفاً لمحاولة التأطير في نمط هوياتي شرقي بعيد عن أشكال التحضر والتقدم، في مساعٍ واضحة لطمس إبداعه وشخصيته.
ولم تكن دير الزور قبل النفط – ولا بعده – على هامش الحدث السياسي والاجتماعي يوماً، لكن النظام السياسي المحلي والإقليمي على حد السواء عملا معاً على تصوير الشرق السوري بأنه عبارة عن قبائل متنازعة متصارعة على الكلأ والماء، واليوم يسعون لتصويرها على أنها نفطٌ فقط، متجاوزين حضارة وإنسان وتاريخ وجغرافيا المحافظة.
لكن إذا تأملنا الجغرافية السياسية لدير الزور، نجد أنها تمثل نموذجاً مصغراً لخارطة الصراع والتداخل الدولي في سوريا، وإذا نظرنا إلى خارطة القوى الفاعلة في المحافظة يبدو واضحاً مدى أهميتها الجيوسياسية، وذلك من خلال تنوع تلك القوى وانتشارها، مما أفرز حالة من عدم الاستقرار تعيشها المحافظة، والتي باتت رهناً للحسابات الدولية الباحثة عن مكان وموطئ قدم في الفراغات التي تولدت عن عميلة الصراع الدائرة بين تلك القوى الداخلية، والخارجية )الإقليمية والدولية(.
كما تتوسط دير الزور العمق العربي السني الممتد بين العراق وسوريا، والذي يشكل بدوره كتلة متجانسة من حلب حتى بغداد، وتقع المحافظة على طريق الحلم الإيراني في الوصول إلى شواطئ المتوسط، حيث تشكل مدينة البوكمال بموقعها الحدودي مع العراق، المفتاح الشرقي لسوريا بالنسبة لإيران، وتمتد دير الزور على تخوم منطقة تشهد صعود مشروع قومي للكرد في ثلاث دول مجاورة، وبهذا فإن دير الزور تفصل البعد المكاني لهذا المشروع عن بيئة عربية الهوية والتوجه.
من جهة أخرى تشكل دير الزور مكاناً لحرية النشاط العسكري لكل الأطراف، حيث تعتبر مضمارا مناسباً لتصفية عناصر تنظيم الدولة، وحصرهم في منطقة بعيدة عن الأماكن الحيوية في دولتين هما العراق وسوريا، وذلك في بادية دير الزور تحديداً.
أما بالنسبة لنهر الفرات الذي تسعى سلطات الأمر الواقع اليوم لفرضه كجدار فصل جديد، فمازالت فكرة إنشاء منطقة منزوعة التوتر على ضفاف الفرات تراود بعض الأطراف، بالرغم من صعوبة تحقيقها على أرض الواقع، وذلك عبر سعي تلك الأطراف لفصل تعسفي بين جماعة عرقية واحدة حول المجرى النهري. ولكن ذلك متعسر بالنظر للتاريخ والجغرافيا، فالأنهار في الأصل هي عوامل وصل وتوحيد أكثر منها عوامل فصل وتقسيم.[1]
[1] وقد اتخذت العديد من الدول مجاري الأنهار أو قطاعات منها حدوداً سياسية بينها، معظمها في صراعات حدودية، وعلى عكس الجبال، لم تكن الأنهار كمعلم طبيعي ذات فاعلية في رسم الحدود السياسية، ومن أمثلة ذلك: -نهر السنغال بين السنغال وموريتانيا. -نهر ميكونغ بين كل من تايلاند وكمبوديا، وفيتنام ولاوس وميانمار. -نهر شط العرب بين العراق وإيران-نهر الأردن بين الأردن وفلسطين.
أما التركيبة الاجتماعية لدير الزور فتتميز بخلوها من التعقيد المتمثل بالتعدد الطائفي العرقي، حيث يشكل العرب السنة غالبية سكان المحافظة، وتعتبر القبائل بمثابة ورقة رابحة بالنسبة إلى أية قوة في وادي نهر الفرات. فالقبائل لا تخوض حروباً شاملة ولا صفرية، وتتمتع بقدر من المرونة يجعلها لا تمتلك آلية للقيادة والتحكّم. لكنها من جهة أخرى تصوغ منظومات فعّالة للترابط الاجتماعي.
والشخصيات القبلية التقليدية عادة ما تتعاون مع النظام القائم أياً كان بشكل عفوي، يحملها على ذلك دوافع عدة لعل المحافظة على بقاء وديمومة القبيلة هو أبرزها. ولقد تضاءلت سلطة المشيخة في القبيلة حديثاً، فلم تعد تمتلك النفوذ السابق لفرض إرادتها على أبنائها، خاصة الذين هم في سن الشباب والمتمرّسين في القتال، وربما يعود ذلك إلى أن تلك الشخصيات والوجهاء مع تطور الاحداث، إما نُزعوا مصداقيتهم وإما انكفئوا، مما أتاح لجهات أخرى تأدية دور أكثر حسماً في التأثير على الأحداث خلال الأعوام الماضية.
من ناحية أخرى تتميز دير الزور بارتفاع نسبة الشباب وارتفاع معدل النمو السكاني بالمقارنة مع سائر المدن والمناطق السوريّة، وتقدر بحوالي 32.4 بالألف بين عامي 2000 و2010. لكن بالرغم من تنوع القطاعات الاقتصادية الموجودة في المحافظة إلا أن (43) % من سكان المحافظة يعملون في القطاع الزراعي، وذلك بسبب الخطط الاقتصادية التي اتبعها النظام السوري، فغالبية العاملين في القطاع النفطي هم من أبناء المحافظات الأخرى
كما أن توفر المواد الأولية في المحافظة لم يؤد إلى تطور صناعي فيها بسبب غياب الدعم الحكومي وتركز الخطط التنموية على دعم وتيسير الصناعة في مناطق أخرى، إضافة لضعف البنى التحتية المساعدة وتأخر القطاع التعليمي والصحي فيها، مما أدى لخروج المواد الأولية من المحافظة على شكل مواد خام ليتم تصنيعها في المحافظات الصناعية كحلب ودمشق، أما الزراعة فتختص محافظة دير الزور مع كل من محافظتي الجزيرة السورية: الحسكة والرقة، بزراعة المحاصيل الاستراتيجية: القطن، القمح، الشعير، الشوندر السكري.
ولا نريد هنا أن نغفل أهمية النفط في دير الزور، لكن أن يتم تصوير المحافظة كحقل نفط كبير يثير مطامع الدول الإقليمية والدول الكبرى، فهذا ما نحاول تفنيده، لكن الحقيقة أن أهمية النفط في دير الزور لها مرتكزات ثلاث: هي احتياطاتها وإنتاجها وازدياد الاعتماد عليه من قبل المركز والمدن الكبرى. لذا فالأهمية على المستوى المحلي هي أهمية نسبية احتكارية تجعله يساهم في جزء من اتخاذ القرار على كامل الأراضي السورية،
وإذا استعرضنا الخلفية التاريخية والاقتصادية لدير الزور، والمراحل التي مرت بها في سعيها لتحقيق طموحها المشروع في التنمية. يتجلى بوضوح عدم اغتنام توافر النفط لبناء قاعدة إنتاجية، بل كان أثر النفط سلبا على المحافظة لأسباب منوطة بالأنظمة الفاسدة وسياساتها، كما يلام أبناء المحافظة في مرحلة من المراحل على تهاونهم وتغافلهم عن كون النفط هو القاعدة الانتاجية ومصدر التطور والتنمية المستدامين.