مع أن الكثيرين لا يحبذون ذكر الأمثال في المقالات السياسية إلا أنها ضرورية أحياناً، يقول المثل الشعبي (ركبتو وراي مد إيدو بالخرج)، وهناك أمثلة أخرى قد تكون أشد قسوة، ولكن سأكتفي بهذا المثل الخفيف للدلالة على ما يحدث في مناطق سيطرة قسد، وخصوصاً في محافظة الحسكة من ناحية فرض الكفالة على العرب من أبناء محافظتي دير الزور والرقة دون غيرهم، والعكس غير صحيح بالنسبة لأبناء الحسكة حين يذهبون إلى دير الزور أو الرقة، إذ يحق لهم التجول والإقامة في كافة مناطق قسد دون قيد أو شرط، كما أن حرية التحرك وعدم التقييد هذه تنسحب على كافة المواطنين الأكراد المقيمين في هذه المناطق أياً كانت أصولهم سواء من هذه المنطقة أو وافدين من محافظات أخرى كحلب وإدلب أو غيرهما.
ولهذا كتبت المثل في المقدمة، فكثيرٌ ممن له السلطة والنفوذ من الذين يقومون بتطبيق هذا القرار هم من الأكراد الوافدين إلى الحسكة، وبعضهم من غير السوريين أيضاً ومع ذلك يمارسون سلطة مراقبة أصحاب الأرض، والكل يعلم عن سيطرة عناصر غير سورية على زمام ومفاصل قسد والأسايش.
وهذا يعبر بما لا يدع مجالاً للشك عن ازدواجية المعايير لدى قسد في التعامل مع الخلفيات العرقية للمواطنين كما يدفع للتساؤل حول دور ما يسمى بالإدارة المشتركة، وقدرتها على سن قوانين عادلة تساوي بين المواطنين مع علمنا المسبق بدور الإدارة المشتركة الهامشي في القرارات الحساسة. وهذا ما نراه بوضوح في مناطق دير الزور والرقة، من خلال وجود قيادات كردية في جميع مفاصل إدارات هذه المناطق، علماً بأن كل العاملين في الإدارة الذاتية -التي من المفترض أنها مشتركة- يعرفون جيداً بأنه لا يوجد أكراد في دير الزور ونسبتهم محدودة في الرقة كذلك فلماذا يتواجدون على رأس السلطة فيهما،
وما علاقتهم بهذه المناطق لكي يشاركوا في إدارتها ناهيك عن السماح لهم بالسكن والحركة دون قيد أو شرط رغم وضع مثل هذه القيود على العرب، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من هؤلاء العرب مولود في الحسكة وآباؤه أو أجداده من المؤسسين لكثير من مدنها وليس وافداً جديداً عليها، كما هو الحال مع المهجرين الأكراد من عفرين أو العناصر المنضوين تحت منظومة حزبي ال pkkأو الpyd .
وتدعي الإدارة الذاتية أنها قامت بهذا الإجراء لدواعي أمنية في منطقة عانت لسنوات من الإرهاب، وفرضت نظام الكفالة لكي يتحمل الكفيل المسؤولية عن الأشخاص المكفولين، و ترد على المعترضين على تطبيق نظام من هذا النوع على مناطق دون أخرى لأن الظروف الاستثنائية للمنطقة والحرب على الإرهاب يحتاجان لهذه الإجراءات التي ستنتهي حال انتهاء مسبباتها وإيجاد حل لما يجري في سوريا.
وإن سلمنا باستثنائية المرحلة إلا أن الإدارة الذاتية قد تناست وجوب توافق هذه الإجراءات الاستثنائية مع الالتزامات الدولية وتحترم حقوق الإنسان فيما يخص التمييز العنصري، فعلى الرغم من أن الحالة الأمنية في شمال شرق سوريا معقدة إلا أن المطلوب من الإدارة العمل بمبدأ الشفافية مع جميع الناس وأن لا يكون ضبط الحالة الأمنية على حسابهم وبالتعدي على حقوقهم في السكن والحركة لأن نظام الكفالة هو نظام ظالم يتعدى على الحقوق بحجة حماية الحقوق. هذا مع أن كل سياسة تفرضها القوى في حالة النزاعات المسلحة التي من شأنها تقييد حركة المواطنين هي خارج إطار قانون حقوق الإنسان. وهذا ما ينطبق على هذا القرار أيضاً.
على هذا الأساس نرى أن هذا النظام المتبع غير قانوني، لأنه يحرم المواطن من حقه في التنقل والعيش في أي بقعة من أراضي الدولة التي يحمل جنسيتها وأن يكون آمناً على ماله ونفسه وعرضه، وهذا ما نص عليه ميثاق العقد الاجتماعي في مادته ال 43 الذي أقرته وأصدرته الإدارة الذاتية عام 2014م لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية على مبدأ التوازن والمساواة بين الناس دون تمييز على أساس العرق، أو الدين أو العقيدة أو المذهب أو الجنس. والذي ينص على “أن لكل مواطن حق التنقل والانتقال وحرية السفر”،
لكن الاعتقاد السائد لدى الكثير من المراقبين هو غير ما تدعيه الإدارة الذاتية وذلك بسبب ملاحظتهم التخوف الدائم الذي تبديه هذه الإدارة من موجات الهجرة إلى مناطقها، فهي تسعى دائماً لوضع مثل هذه الضوابط والقوانين، حتى لا تزداد نسبة العرب وهو ما تخشاه هذه الإدارة لهذا السبب فهي تعطى التسهيلات للأكراد حتى تزداد نسبتهم.
ورغم أن القوانين من الناحية النظرية لا تميز بين الأعراق حسب ما تدعي الإدارة الذاتية إلا أن الواقع هو العكس تماماً، فالقيادة الكردية لهذه المناطق لاتزال تعيش تحت ضغط هاجس التغيير الديموغرافي المتمثل بمشروع الحزام العربي الذي سعى النظام السابق إلى تنفيذه عام 1975م، ولهذا فهي تخفف الإجراءات على الأكراد وتشددها على باقي المكونات وهو ما يراه جميع المراقبين المحايدين، وعلى هذا الأساس فهي تمارس ما مارسته السلطات السابقة وتناقض ادعاءاتها في أنها تسعى لدولة مدنية تحترم المواطنين المتساوين فيها أمام القوانين.
ولقد بدأت الإدارة الذاتية في تطبيق هذا القرار حتى على العرب المقيمين في الحسكة من السكان الأصليين لكن أصولهم من محافظات أخرى ولم ينقلوا نفوسهم من محافظاتهم الأصلية تلك، كما هي عادة أغلب السوريين الذين لا يغيرون سجلاتهم المدنية كنوع من الارتباط العاطفي، أو خجلاً من أقاربهم الذين قد يعتبرون هذا النقل بمثابة التخلي عن الأصول، علماً بأن كثير منهم يقيمون فيها منذ عقود أو أن أهلهم من مؤسسي هذه المحافظة كما قلنا سابقاً.
ونحن نتحدث في هذا السياق عن الحسكة الحديثة التي يبدأ تاريخها المعاصر مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث كانت عبارة عن موقع وثكنة عثمانية أقيمت في تلك المنطقة لأهميتها الاستراتيجية حيث تمَّ بناء مركز لفرقة عسكرية عام 1907 م في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. بعد ذلك أتت مجموعة من قلعة مراويه وهم قوم من السريان الأرثوذكس يتكلمون العربية وينتمون إلى قرية هذه القلعة التي تقع إلى الشمال الشرقي من ماردين. وكانوا حوالي سبعة بيوت في الجانب الغربي من مركز الجيش التركي، ويبيعون بضائعهم إلى القبائل العربية المنتشرة في محيطهم، وقد كانت تلك القبائل تعيش بالقرب من موقع المدينة. وكبرت مدينة الحسكة بتزايد القادمين إليها من المدن الشمالية القريبة أيام السفر برلك.
وينسحب هذا الأمر على كثير من مدن المحافظة، فعلى سبيل المثال، تأسست مدينة القامشلي عندما أنشأ فيها الجنود الفرنسيون قاعدة عسكرية لهم، وبدأ ببنائها 1921م وتم تخطيطها عام 1926م من قبل الملازم أول الفرنسي “تيرييه” بسبب الموقع الذي اعتبره الفرنسيون استراتيجياً لوجود نهر الجقجق وسكة حديد حلب – نصيبين أو ما يسمى “خط حديد طوروس”. وعليه فإن أغلب مدن المحافظة تعتبر حديثة بسكن الناس فيها لأن أغلب سكان المنطقة كانوا من قبائل البدو الرحل وفي مقدمتهم طي والجبور وشمر أضف إلى أن المنطقة كانت تسمى ديار ربيعة قديماً.
لست هنا بوارد البحث في تاريخ المنطقة وتبعيتها وهي لمن تاريخيا فهذا ليس من اختصاصي وله أصحابه الذين يكتبون فيه لكنني نوهت للتاريخ الحديث لقيام أكبر مدينتين تابعتين لمحافظة الحسكة لأبين فيه أن جميع سكان هذه المدن هم أصلاً حديثو العهد فيها، وعليه يمكن اعتبارهم جميعاً وافدون إلى هذه المنطقة سواء من الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، ومن يتتبع التاريخ الحديث يجد الكثير من الهجرات التي حدثت لهذا السبب أو ذاك عند نهاية الخلافة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى وبدء انتشار الفكر القومي بين أبناء هذه المنطقة، وما قام به سايكس وبيكو من الاتفاق على تقسيم المنطقة إلى دول أصبحت مناطق نفوذ لإنكلترا وفرنسا خلقت الكثير من بؤر التوتر والصراع في هذه المنطقة لاتزال شعوبها تعاني منها
لذلك فلا أفضلية أو أحقية لواحد على آخر في هذه المنطقة أو تلك، ولهذا لا يمكن القبول بهكذا قرارات خاصة أنها لا تطبق على الجميع وتنتهك حقوق كثير من الناس.
في النهاية نرى أن مثل هذه القرارات تعتبر عنصرية من الناحية القانونية وموجهة ضد فئة محددة مما يجعلها تندرج في إطار محاولات التغيير الديمغرافي في المحافظات الشرقية، والذي يتناغم مع ما يقوم به الإيرانيون تحت أنظار النظام غرب الفرات، مع فارق أن الإيرانيين يقومون بهذا العمل بطريقة ناعمة أي بدون إصدار قوانين علماً بأن ما يقومون به أخطر مما قامت به الإدارة الذاتية، لأن ما يجري غرب الفرات يطال العقيدة والعرق ،وأن ما يجري في شمال شرق سوريا سواء في مناطق قسد أو النظام لا يخدم سوريا المستقبل التي يتطلع مواطنوها إلى دولة مدنية يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللون أو الجنس، وإن كان ما يقوم به النظام في غرب الفرات مفهوم بسبب طبيعته الاستبدادية القائمة على تأليه الحاكم اعتماداً على أقلية طائفية فإنه غير مقبول من ناحية الإدارة الذاتية التي تعتبر نفسها جزء من الثورة ضد الظلم والاستبداد فكيف تمارس الظلم والاستبداد؟ سؤال يجب على الإدارة الذاتية الإجابة عليه، ليس من الناحية النظرية بل عملياً وعلى أرض الواقع لتثبت أنها جزء من سوريا وأن مكوناتها هم سوريون قبل أي انتماء آخر، وهذا ينسحب على كل العاملين فيها من عرب وكرد وآشوريين وكلدان أو سريان مسلمين أو مسيحيين بغض النظر عن الطائفة أو الجنس فهل هم قادرون على الإجابة على هذا السؤال حتى يعيشوا بسلام مستقبلاً، أم أن الجحيم بانتظارهم جميعاً،
ننتظر لنرى..